فوائد من مصنفات العلامة المعلمي منذ 2020-12-06 وقد طبعت ولله الحمد والمنة كتب الشيخ, فجاءت في خمس وعشرين مجلداً, في مختلف الفنون: العقيدة, التفسير, الحديث وعلومه, الفقه, أصول الفقه, النحو واللغة الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فللكتب في حياة العلماء مكانة كبيرة, ومن العلماء الذين كانت للكتب عندهم مكانة عظيمة: الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني, يقول في رسالة بعثها إلى أخيه " أحمد ": الحمد لله على كل حال, فإن نعمه سبحانه وتعالي عليَّ وعلى خلقه لا تحصى, ومن أعظم ذلك أنني بحمد الله تعالى لا أحتاج إلى أحدٍ من الناس, وأني رُزقت شيئاً من اللذة في الكتب... وقد توفي رحمه الله بين الكتب, فقد وافاه الأجل يوم الخميس السادس من شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وستة وثمانين, وذلك بعد أن أدى صلاة الفجر في المسجد الحرام, وعاد إلى مكتبة الحرم حيث كان يقيم, فتوفي على سريره, وذكر الشيخ حمد الجاسر أنه توفي منكباً على بعض الكتب في مكتبة الحرم المكي الشريف. ومن كانت لذته في الكتب, ومات بين الكتب, فالغالب أن يكون معظم وقته بين القراءة والتصنيف, وأن يكون له مؤلفات كثيرة, وهذا ما كان, فقد ترك الشيخ رحمه الله مؤلفات تجاوزت عددها مئة وعشرين كتاباً ورسالة, متفاوتة الحجم, ما بين رسالة لطيفة, وكتاب في مئات الصفحات. وقد طبعت ولله الحمد والمنة كتب الشيخ, فجاءت في خمس وعشرين مجلداً, في مختلف الفنون: العقيدة, التفسير, الحديث وعلومه, الفقه, أصول الفقه, النحو واللغة وقد يسّر الله الكريم فجمعت شيئاً مما يوجد في تلك الكتب من فوائد, أسأل الله أن ينفع الجميع بها. سر صيغة الجمع في السلام وجواب التشميت في الحديث أن العاطس إذا حمد الله, يُقال له: " يرحمك الله " فيجيبُ: " يهديكم الله ويصلح بالكم " وفي حديث تعليم السلام أن يقول: " السلام عليكم ", فيجيب: " وعليكم السلام" فما سر الإفراد في " يرحمك الله " والجمع في البواقي ؟ مع أن المترحِّم, والمسلِّم, والمسلَّم عليه قد يكون واحداً.؟ قد كان ظهر لي أن السرّ في جمع " يهديكم الله " الإشارة إلى أنه ينبغي أن يترحم على العاطس كلُّ من سمعه, ثم رأيت أن هذا لا يكفي, لأنه على ذلك ينبغي إذا كان المترحِّم واحداً أن يقال : " يهديك " وكذا في السلام. ثم تبين لي سحر ليلة الجمعة 29 رمضان سنة 1356 أن السرَّ هو أن الترحُّم من الإنس وحاضري الملائكة ومؤمني الجن, فلذلك ينبغي أن يجاب بالجمع " يهديكم الله ويصلح بالكم " وإن كان الإنسان المترحِّم واحداً, لأن معه من ذُكِر. فأما العاطس, فلا يمكن أن يقال: إذا عطس, عطس معه الحاضرون من الملائكة ومؤمني الجن. وأما السلام فإن القادم يسلّم على الجالس ومن معه من الملائكة ومؤمني الجن, فلذلك ورد بلفظ الجمع. وكذا جوابه, لأن سلامه يكون عنه وعمّن معه من الملائكة ومؤمني الجن, فيكون الجواب بالجمع من أوسع أودية الباطل وأمضى أسلحته: من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل, ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم. يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره, ونحو ذلك, فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو, لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسبوا إلا ما هم أشدّ الناس كراهية له من بُغض عيسى وتحقيره. ومَقَتهم الجمهورُ, وأوذوا, فثبَّطهم هذا عن الإنكار, وخلا الجو للشيطان. وقريب من هذا حال غلاة الروافض, وحال القبوريين, وحال غلاة المقلدين. اللئيم, والبخيل, والسخي, والكريم: الذي يجمعُ ويمنعُ ولا يشفعُ ولا ينفعُ هو: اللئيم. والذي يجمعُ ويمنعُ ويشفعُ ولا ينفع هو: البخيل. والذي يجمعُ ولا يمنع ويشفعُ وينفعُ هو: السخي. والذي يفعل ليفعل لينفع غيره بلا نفعٍ يعود عليه هو: الكريم. سبب الغضب وسبب الحسد: سبب الغضب: هجوم ما تكرهه النفس ممن لها عليه نوع قُدرة. وسبب الحسد: هجوم ذلك ممن ليس لها عليه قدرة. الغضب والحزن: الغضب يتحرك من داخل الجسد إلى خارجه, والحزنُ عكسه, ولذلك يقتل الحزن لا الغضب. الناظرون في العلم ثلاثة: الناظرون في العلم ثلاثة: مخلص مستعجل يجأر بالشكوى, ومُتَّبع لهواه فأنى يهديه الله, ومخلص دائب فهذا ممن قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] سنة الله في نيل المطالب العالية والدرجات الرفيعة: وسُنة الله عز وجل في المطالب العالية والدرجات الرفيعة: أن يكون في نيلها مشقّةً, ليتم الابتلاء ويستحق البالغ إلى تلك الدرجة شرفها وثوابها, قال الله تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] نوائب وقعت للشيخ في ماله وأهله وتفسيره لها: من ذلك: ما وجدته أنا, فإني كنتُ في حال حسنة في أهلي ومالي, فأنفقتُ نفقةً في وجهٍ من وجوه الخير, وهممتُ بغيرها فأصابني بعض نوائب الدهر في أهلي ومالي, ولكني بحمد الله عز وجل لم ألتفت إلى ذلك, فنفذتُ ما هممتُ به, ثم فعلت مثله مرةً ثالثة, وإلى الآن وتلك النوائب لم يتم انجلاؤها. وظهر لي توجيه لتلك النوائب, وهو أنه يمكن أن تلك النفقة وقعت موقع القبول عند الله عز وجل, فأراد أن يكافئني عليها بأن يطهرني من بعض الذنوب التي عليَّ, وهذه النوائب من ذلك التطهير. الحكمة في كذب الكاذبين في حديث الرسول علية الصلاة والسلام: حكمته سبحانه وتعالى شاملة لكل شيء, حتى وضع الوضاعين وكذب الكاذبين, لله عز وجل حكمة بالغة في تمكينهم منه, ففي ذلك بروز ما في نفوسهم من حبِّ الباطل, وبذلك تتم عليهم الحجة, وفي ذلك ابتلاء للناس, وفتح مجال لاجتهاد أهل العلم وجهادهم. العاقل: العاقل من حاسب نفسه, واغتنم خمسه, ولاحظ رمسه, فكان لنفسه صديقاً, لا يسعى إلا في نفعها, ولا يهمه غير رفعها, يطرح هواه إلى ما أمر به الله, فمن كان ذلك فاز بالنعيم المقيم, وأمِنَ شرَّ الجحيم. فليس العاقل من سعى في تكثير ماله, وتهنيء عيشه, وتحسين ثيابه, وترغيد أكله وشرابه, وتحلية شبابه. كلا, والله, وإنما العاقل من آثر الباقي على الفاني, والدائم على المنقطع, والفاضل على المفضول, والخير على الشر, ودار المقرِّ على دار الممرِّ, ومكان الإقامة على طرق السفر. وأي ُّ عاقل يسعى في عمارة ما لا يقيم فيه, ويترك ما يقيم فيه ؟ وأيُّ مميز يُزخرفُ طريقاً هو مار فيها وراحل عنها, ويترك إقامته خراباً ؟ وإنما ذلك من الجنون, وأعقل الناس الزاهدون. سبب امتناع أبي بكر النفقة على مسطح: المناسب لمقام الصديق أن منعه عن مسطح النفقة لم يكن غضباً لنفسه وابنته, وإنما هو غضب لله تعالى, لأن قوله بالإفك معصية, ويؤيِّده أن ظاهر القصَّة أنه إنما منعه النفقة بعد براءة عائشة. والله أعلم. المال الحرام لا بركة فيه: لو فتشت لوجدت أفراداً من الناس لأحدهم وارد من المال يكفيه وأهله براحة, ثم يقع في اكتساب الحرام, فتجد الحلال مع الحرام لا يكفيه كما كان يكفيه الحلال, ولو دققت لوجدت أنها تعرض له عوارض لا يشعر بها, مثل كثرة انكسار الآنية, وتخرُّق الثياب قبل وقتها, وغير ذلك من الأسباب التي تضطره إلى الإنفاق, وهو يرى أنه لم ينفق إلا فيما لابد منه. علم الدين يشارك العلوم في ترقية المدارك, وينفرد عنها تحصيل السعادة الأبدية: قد استقر في الأذهان, واستغنى عن إقامة البرهان, ما للعلم من الشرف والفضيلة, وأنه هو الوسيلة لرفع الإنسان في المعنى عما ارتفع عنه في الصورة من البهائم. ومما لا نزاع فيه أن العلوم تتفاوت في مقدار ذلك الشرف, منها: الشريف والأشرف, والمهم والأهم. ومهما يتصور لعلوم الفلسفة والطبيعيات والرياضيات والأدبيات والصناعيات وغيرها من العلوم الكونيات مهما يتصور لها من الشرف والفضيلة, والمرتبة الرفيعة, فإنها لا تُداني في ذلك العلم الذي مع لها في ترقية المدارك, وتنوير العقول, ينفرد عنها بإصلاح الأخلاق, وتحصيل السعادة الأبدية, وهو علم الدين. ومهما ترقى الإنسان في الصنائع والمعارف الكونية, وتسهيل أسباب الراحة, فإن ذلك إن رفعه عن البهمية من جهة, فإنه ينزل به عنها من جهة أخرى, ما لم تتطهر أخلاقه, فيتخلَّق بالرأفة, والرحمة, والإيثار, والعفة, والتواضع, والصدق, والأمانة, والعدل, والإحسان وغيرها من الأخلاق الكريمة. مداخل الهوى: للهوى مداخل كثيرة, منها: أن يميل الإنسان إلى ما كان عليه أبواه, كما في الحديث الصحيح: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة, وأبواه يهودانه أو ينصرانه.) الحديث ومنها: أن يميل إلى ما كان عليه أستاذه. ومنها: أن يميل إلى ما اعتاده وأَلِفه. ومنها: أن يميل إلى ما رأى عليه من يحبه ويعظمه. ومنها: أن يميل عما رأى عليه من يبغضه أو يستحقره, قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [هود:27] وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] ومنها: أن يميل إلى ما وقع في ذهنه أولاً, فيصعب على نفسه أن تعترف أنها أخطأت أولاً, ولا سيما إذا كان قد أظهر قوله الأول. وإذا تمكن الهوى عميت البصيرة, فَتُعرضُ على صاحبه الحجة النيرة فيرى أنها شبهة فقط,...وتُعرضُ عليه الشبهة الضعيفة الموافقة لهواه فيرى أنها برهان قاطع. ومسالك الهوى قد تكون خفية جداً, فيتوهم الإنسان أنه لا سلطان للهوى عليه وأنه ممن يجاهد في الله طلباً للحق أنّى كان, مع أنه في الحقيقة خلاف ذلك. أسباب إصابة الحق: إصابة الحق فيما يمكن اشتباهه تتوقف على ثلاثة أمور: التوفيق, والإخلاص, وبذل الوسع. أما التوفيق, فالتوفق عليه ظاهر, وإنما الشأن في سبب حصوله, وقد بينه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] وأما الإخلاص, فهو رغبة صادقة في إصابة الحق لا يعارضها هوى مُتبع. وأما بذل الوسع ففي ثلاثة أمور: الأول: تعرّفُ الهوى, وتطهير النفس منه, أو التحرز من اتباعه. الثاني: تقوى الله عز وجل والاستكثار من الطاعات واجتناب المعاصي والمكروهات. الثالث: طلب العلم. ضوابط لانتخاب الكتب القديمة التي يُراد طبعها: ينبغي أن يراعي في الانتخاب أمور: أن يكون الكتاب عظيم النفع, كثير الفائدة, يرجى أن يكون لنشره أثر عظيم في إحياء العلم ونشره. ومن لازم ذلك أن لا يكون قد طُبع ونُشر كتاب يغني عنه. أن يقدم الأهم فالأهم. أن يكون في متناول ملتزم الطبع من نُسخ الكتاب القلمية نسختان جيدتان على الأقل, اللهم إلا الكتب العزيزة التي لا يوجد منها إلا نسخة واحدة في العالم (17) رحم الله الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي. كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
==================
نجوم في فضاء العلوم منذ 2015-02-04 ليتنا ننشر سير هؤلاء الأعلام بين النشءِ، ليت إعلامنا الفاسد يصبح أداة مُصلحة تعرض لتراجمهم، وتحمِّس للاقتداء بهم، بدل الترويج للسفهاء وأراذل القوم، الذين أفسدوا الأفكار والأذواق والقيم والمبادئ، ليت تعليمنا يغير سياساته العرجاء، ويستقيم على أصوله؛ لينجب طلابًا يكونون مفخرة للأمَّة. وأنت تطالعُ تراجم العلماء الأعلام من سلف الأمة الصالح، تلمحُ ذاك التجانس المثير للفخر والإعجاب في تحصيلهم للعلوم بشتَّى مشاربها، وذاك النَّهم الشديد الذي كان يستوطن نفوسًا أبيَّة، لم يخنقها حبل التخصص، ولا حجبَها عن زيارة رياض الفكر والأدب للنَّهل من طيب رياحينِه ما ارتاحتْ له نفوسُهم، وتناغمتْ معه ألبابُهم، بل إنك تكادُ تتميز غيظًا وأنت تُبصر ذاك البَوْن الشاسع بين تحصيلهم الذي بلغ المدى، وتحصيلنا الذي ما جاوز حدَّ أنوفنا. وإليكم ابن النفيس، ذاك العالم الموسوعي، والطبيب العربي المسلم، الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى، وخلَّف أبحاثًا عظيمة في الطب، ما زال الاعتماد عليها ليومنا هذا، هذا العالم الجليل لم ينحصر همُّه في الطب فحسب، بل نَهَل من شتَّى العلوم الدنيوية والشرعية، فكان له باعٌ في البحث والـتأليف، فأنجب في الطب الموسوعة الطبية الشهيرة (الشامل في الصناعة الطبية)، وفي اللغة (طريق الفصاحة)، وفي المنطق (شرح الهداية لابن سينا)، وفي السيرة النبوية (الرسالة الكاملية)، كما كانت له مصنفات في علم الحديث، والفقه وأصوله، وفي علم الكلام، والفلك والحساب، وها هو الخوارزمي عالم الرياضيات الشهير، يبدع -أيضًا- خارج مجال تخصصه، حيث كانت له إسهامات في علم الفلك والجغرافيا، والعلامة أبو الفرج ابن الجوزي ترك إرثًا علميًّا نفيسًا في علوم شتى، سواء في التفسير أو الحديث أو التاريخ أو اللغة أو الطب أو الفقه، وغيرها من العلوم، وجاء الخبر اليقين أن ابن رشد كان فيلسوفًا وطبيبًا وفلكيًّا وفيزيائيًّا، كما كان فقيهًا متمكنًا، وكتابه (بداية المجتهد، ونهاية المقتصد) خير دليل على ذلك، وورد الأثر عن الإمام الطبري أنه كان محدثًا وفقيهًا ومؤرخًا، قال عنه الإمام الذهبي: "كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك". أليس مدعاةً للفخر هذا الثراء الفكري الذي دأب عليه سلفنا؟ ألاَ يبعث هذا في نفوسنا جملة من الاستفسارات عن سرِّ هذا التفوق الممزوج بهذا التنوع الجميل؟ ألا تُيَمِّمُ غيرتُنا بوجهها شطر هذا الجانب المشرق من سلفنا، فتقتفي أثره، وتُحيي رميم أمتنا؟ إن هذا التنوع البهيج في التحصيل العلمي والإبداع الفكري، يجعلك تؤمن أن العلوم كلها كانت أسرة واحدة، تحنو على طلابها، وتفتح ذراعيها لكل ابنٍ بارٍّ شاء أن يروي ظمأه الفكري، ويسقي عطشه الروحي، وما أن تقهقرت الأمة حتى تمزقت عروة هذه الأسرة، وتباعد أبناؤها، وهامَ كلٌّ منهم في واديه، دون أن يُلقي بالاً للآخر، بل بِتْنا نشعر أن العلوم صار يناصب بعضها بعضًا العداء، ويكفي أن تلقي نظرة على مناهجنا التعليمية، وعلى مستوى مُدرِّسينا وطلابنا؛ لتقف على ذاك الشَّرخ العميق بين العلوم. وعودًا على بدءٍ أحبُّ أن أنوِّه بأمرٍ جميل أثارني في سير هؤلاء الأعلام، وهو تركيزهم على تعلم العلوم الدينية، رغم ميولهم العلمية أو الأدبية، بل إنهم لم يكتفوا بالارتشاف منها بضع رشفات، وانبروا يؤلفون في هذه العلوم، ويبدعون فيها ما أفادهم وأفاد أجيالاً بعدهم، بخلافنا نحن، فطالب العلوم البحتة لا علاقة له بالعلوم الشرعية، بل مما يندى له الجبين أن تجد عالمًا مسلمًا أو أستاذًا جامعيًّا في علوم دنيوية لا يكاد يميز سنن الوضوء من فرائضه، ويستفسر في أمور هي من المُسلَّمات والبديهيات الفقهية، وأضحى خوض غِمار العلوم الدينية حكرًا على أهل التخصص الذين حرَّموا على أنفسهم كذلك الدنو من العلوم الدينية واللغوية. حواجز عقيمة بين العلوم شيدناها بجهلنا وتقاعسنا، فصار طالب العلم يبرح مقاعد الدراسة وقد فقه جزئية من جزئيات العلم، وغابت عنه كلياته، وصار -مثلًا- تدريس القيم والأخلاق مسؤولية مدرس التربية الإسلامية، وتدريس قواعد اللغة وضوابطها من اختصاص أستاذ اللغة العربية، وسائر المواد باتت تدرس باللهجات العامية، دون مراعاة لأيِّ تكامل يفترض أن يكون بين مواد التدريس. ولعلَّ أهم سبب جعل علماء السلف يبزُغ نجمهم ولا يأفل رغم مرور كل هذه القرون، تعاملُهم الراقي مع العلم الذي امتزج فيه الجانب العقدي بالروحي والوجداني؛ إذ لم تكن نيتهم في التحصيل العلمي والمعرفي الظفر بمنصب دنيوي، بل سَمَتْ نيَّاتهم، فجعلوا طلب العلم ركيزة من ركائز الحياة التي تقوم عليها أمةٌ، هم مسؤولون أمام الله عن رقيها وصلاحها، وغدا طلب العلم فريضة يواظبون على أدائها، ولا يبغون عنها حِوَلًا: يا طالب العلم لا تبغي به بدلًا فقد ظفرت ورَبِّ اللوح والقلمِ العلم أشرف مطلوب، وطالبه لله أفضلُ من يمشي على قدمِ بل إن طلب العلم كان بالنسبة لهم عبادة وقربة من القربات التي يتعبَّدون الله بها، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما تُقرَّب إلى الله بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم". وقال الإمام الماوردي: "العلم أشرف ما رَغِب فيه الرَّاغب، وأفضلُ ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفعُ ما كسبَهُ واقتناهُ الكاسب؛ لأن شرفه يُثْمر على صاحبه، وفضله ينمي عند طالبه". ولهذا سَمَت همتهم، فلم يرضوا من غنيمة العلم بالإياب، واقتحموا بكل شغف علومًا شتى، فكانت إبداعاتهم تتسم بالشمولية والموضوعية، ورسخت في الذاكرة العلمية للإنسانية. ولأنه عبادة؛ فقد كان إخلاص النية في تحصيله ديدنهم، فما ابتغوا به غير وجه الله تعالى، وإن التبستْ نيتهم في بدء تحصيله، فإنهم سرعان ما يعدلون بوصلة قلوبهم صَوْب مَن أغدق عليهم نعمة الفَهْم والفقه، حتى قال مجاهد: "طلبْنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثم رزقنا الله النية بعد"، وبعضهم قال: "طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبَى العلم أن يكون إلا لله". وهذا الفهم الثاقب لماهية العلم وكُنْهِ التعامل معه ينسجم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا، لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة»؛ يعني: ريحها؛ (رواه أحمد، وأبو داود)، واللفظ له، وقال صلى الله عليه وسلم: «من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار»؛ (رواه الترمذي)، وحسنه الألباني، لكن هذا لا يمنع -كما قال العلماء- أن يبتغي المرء من تحصيله للعلوم الدنيوية وظيفة أو مالاً أو مكانة، لكنه إذا أخلص لله تعالى أُثيب بقدر إخلاصه. وقال الحافظ الذهبي -في كتابه (سير أعلام النبلاء) ج18، ص192:- "فَمَنْ طلَبَ العِلمَ لِلعَمل، كَسَرَهُ العلمُ، وبَكَى على نفسه، ومَن طلب العلم للمدارس والإفتاء، والفخر والرياء، تَحَامَقَ، واخْتَالَ، وازْدَرَى بالناس، وأهلَكَهُ العُجْبُ، ومَقَتَتْهُ الأنفُسُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]؛ أي: دسَّسَها بالفجور والمعصية"؛ ا.هـ. فالإخلاص طوق النجاة الذي لاذ به سلفنا الصالح؛ ولهذا بارك الله في سعيهم، فأينعت أشجار علمهم، وأثمرت ثمارًا انتفعت بها أجيال عديدة على مدى أزمنة مديدة، أما نحن فغاية همنا من التحصيل العلمي الظفر بشهادة تُسعفنا في الحصول على وظيفة تعيننا على نوائب الحياة، ثم ننسى بعدها كل علاقة بالدراسة، ونُطلِّق الكتب طلاقًا بائنًا، إلا من رحم ربي. كما لا يجب أن نغفل طبيعة التنشئة والتربية التي نما بين أحضانها هؤلاء العلماء، والتي كان لها دور مهم جدًّا في بلورة فكرهم، حيث كانت التربية الدينية اللبنة الأساس التي تشيد دعائم الأسرة المسلمة، فكان الطفل ينشأ بدءًا على حفظ كتاب الله، ثم يُعرِّج على كتب الحديث والفقه، ومِن ثَمَّ يطلق العنان للبحث في المجال الذي يستهويه، فينشأ مستقيمًا في علمه وعمله دون عوج ولا أمْتٍ، نافعًا لنفسه ولمجتمعه ولدينه. ليتنا ننشر سير هؤلاء الأعلام بين النشءِ، ليت إعلامنا الفاسد يصبح أداة مُصلحة تعرض لتراجمهم، وتحمِّس للاقتداء بهم، بدل الترويج للسفهاء وأراذل القوم، الذين أفسدوا الأفكار والأذواق والقيم والمبادئ، ليت تعليمنا يغير سياساته العرجاء، ويستقيم على أصوله؛ لينجب طلابًا يكونون مفخرة للأمَّة، لا عالة عليها، ليتنا نعي هذا الكلام الجميل للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد: "فإن الهمم لتخمد، وإن الرياح لتسكن، وإن النفوس ليعتريها الملل، وينتابها الفتور، وإن سيَر العظماء لمِن أعظم ما يذكي الأُوَار، ويبعث الهمم، ويرتقي بالعقول، ويوحي بالاقتداء، وكم من الناس من أقبل على الجِد، وتداعى إلى العمل، وانبعث إلى معالي الأمور، وترقى في مدارج الكمالات، بسبب حكاية قرأها، أو حادثة رُوِيَت له"؛ مقدمة كتابه (تراجم لتسعة من الأعلام، ص:1). المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق