اليوم أظلهم في ظلي
لأهمية الأخوة والحب في الله وعظيم أجرها فقد تولَّى سبحانه وتعالى بنفسه يوم القيامة يوم العرض الأكبر نداء المُتحابِّين فيه ليكرمهم ويجزيهم أعظم الجزاء.
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم كيف شاء عزةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى الناس إعذارًا منه وإنذارًا، فأتَمَّ بهم نعمته السابغة، وأقام بهم حُجَّته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة.
أحمده، والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره على مزيد فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أُسِّست المِلَّة، ونُصِبت القِبْلة، ولأجلها جُرِّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسلَه رحمةً للعالمين وقدوةً للمتقين، وبشيرًا ونذيرًا للخلق أجمعين، أمَدَّه بملائكته المُقرَّبين، وأيَّدَه بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين، أفضل مَنْ صَلَّى وصام وتعَبَّد لربِّه، وقام ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام، أما بعد:
عباد الله، عندما تقسو القلوب، ويضعف الإيمان، وتتأجَّج الخلافات لأتفه الأمور، وعندما يحل التقاطع والهجران بين أفراد المجتمع، وتختفي الأُلْفة وتنعدم النصيحة، وعندما لا يجد المرء لذة العبادة ولا طعم الراحة ولا حلاوة للإيمان، وعندما يتصدَّع بنيان المجتمع وتظهر العصبيات الجاهلية، فتنشأ الأحقاد، وتنتشر الضغائن، وتغمط الحقوق، وتهمل الواجبات، وعندما تضعف قيم التراحُم والتعاوُن وبذل المعروف وتقديم النفع في حياة الناس، عندما يحدث ذلك كله؛ فاعلموا أن عبادة عظيمة قد تُرِكت، وخصلة من خصال الإيمان قد أُهْمِلت، ومنزلة من منازل السالكين قد ذهبت، وركيزة من ركائز المجتمع قد ضعفت، هذه العبادة هي الأخوة والحب في الله بين المسلمين في المجتمع المسلم، أخوة وحب ليس فيه مصلحة دنيوية، ولا منفعة شخصية، وليست على سبيل القرابة والنَّسَب؛ بل بين المسلمين جميعًا، والله سبحانه وتعالى قد أمر بها، وحَثَّ عليها، وأكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وجعل الإسلام لهذه الأخوة حقوقًا وواجبات وآدابًا ينبغي لكل مسلم أن يقوم بها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، بها امتَنَّ الله على عباده فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، ولأهميتها وعظيم أجرها فقد تولَّى سبحانه وتعالى بنفسه يوم القيامة يوم العرض الأكبر نداء المُتحابِّين فيه ليكرمهم ويجزيهم أعظم الجزاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أظِلُّهم في ظِلِّي يوم لا ظِلَّ إلَّا ظلِّي»؛ (رواه مسلم).
ولها منزلة عظيمة تَطَلَّع للوصول إليها الأنبياء والشهداء والصالحون، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِن اللَّهِ تَعَالَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ»، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]))؛ (أخرجه أبو داود وصححه الألباني)
بل جعل سبحانه وتعالى الأخوة وسيلة لاكتساب حلاوة الإيمان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»؛ (البخاري ومسلم)، فحلاوة الإيمان يجدها المرء عندما يحب إخوانه من حوله، وكم نحن بحاجة إلى هذا الإيمان في زمن تشعَّبَت به الهموم، وكثرت فيه المشاكل، وقَسَتْ فيه القلوب، وإن الحب في الله من طُرُق الإيمان الموصلة إلى رضوان الله وجَنَّته، وهي طريق المؤمنين وسبيلهم إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»؛ (رواه مسلم).
أيها المؤمنون، هذه الأخوة بين المسلمين لا تقوم على أساس القرابة ولا العشيرة ولا القبيلة ولا المناطقية ولا الحزب ولا الطائفية والمذهبية ولا المصلحة والمنفعة، إنما أساسها الإيمان والتقوى والحب في الله، فمن كان مسلمًا تقيًّا وَرِعًا عليك أن تحبه وأن تقوم بواجبات الأخوة نحوه من أي بلاد كان، ومن أي أرض كان؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، عن أبي مالك الأشعري قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، قال: فنحن نسأله إذ قال: ((إنَّ لله عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيُّون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة))، قال: وفي ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم، من هم؟ قال: فرأيت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البِشر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هم عباد من عباد الله من بلدان شتى، وقبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابُّون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورًا، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس، ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون»؛ (رواه أحمد والحاكم وصحَّحه الذهبي).
يقول التابعي مالك بن دينار: "لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاثة: لقاء الإخوان، والتهجُّـد بالقرآن، وبيت خالٍ يذكر الله فيــه.."، وقال الإمام الشافعيُّ –رحمه الله-: "أفضل الأعمال ثلاثة: ذكر الله تعالى، ومواساة الإخوان، وإنصاف الناس من نفسك..." وحتى لا يضيع الإيمان ونفقد حلاوته وحتى لا نفقد هذه الأخوة وتختفي ثمارها وتذهب بركتها في حياتنا ينبغي أن نحييها في قلوبنا ومعاملاتنا وسلوكنا تعَبُّدًا لله، وطلبًا لرضاه، وحفاظًا على مجتمعاتنا، ودفعًا لكثير من الأمراض والأوبئة الاجتماعية التي دَمَّرت الحضارات، وفكَّكت المجتمعات، وأوجدت الصراعات، وأوغرت الصدور بسبب دنيا فانية ولذة عابرة ومتاع زائل، وعلينا أن نقوم بحقوقها وآدابها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الحقوق: وهي حقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة".
وإن أول هذه الحقوق سلامة الصدر، فلا يحمل المسلم على أخيه المسلم شحناء ولا بغضاء ولا حسدًا، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، ولا يبع بعضُكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدرِه ثلاث مرَّات - بحسب امرِئٍ من الشَّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرَام: دمُه ومالُه وعِرضُه»؛ (رواه مسلم) .
والله سبحانه وتعالى وصف عباده وهم يتضرعون إليه، فقال تعالى {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 9- 10].
ومن حقوق الأخوة القيام بالواجبات الحياتية واليومية والمعاشية تجاه إخوانك المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ»؛ (البخاري ومسلم)، ومنها زيارة المسلم لأخيه المسلم وتفَقُّد أحواله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مرصدته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، فقال: هل لك عليه من نعمة تربّها عليه؟ فقال: لا غير أني أحببته في الله تعالى، فقال الملك: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحَبَّك كما أحببته فيه» "؛ (رواه مسلم).
ومن هذه الحقوق حُسْن الظَّنِّ بأخيك المسلم، وستر عيوبه، وتقديم النصح له، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولَمَّا يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تَتَبَّع عوراتهم، تَتَبَّع الله عورته، ومَنْ تَتَبَّع الله عورته، يفضحه في جوف بيته»؛ (صحيح).
أيها المسلمون، ومن حقوق الأخوة تقديم النفع لهم بالمال والجهد، وإعانتهم بما تستطيع وقضاء حاجاتهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابِّين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ»؛ (رواه أحمد، صحيح الجامع (4321))، وقال علي رضي الله عنه: "عشرون درهمًا أعطيها أخي في الله، أحبُّ إليَّ من أن أتصَدَّق بمائة درهم".
ولقد كان الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُهْدِي له شيء قال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه أخوه إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى يرجع إلى الأول.. وقال أبو سليمان الداراني: إني لألقم اللقمة أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي.. قال اليزيديُّ: رأيت الخليل بن أحمد، فوجدته قاعدًا على طِنْفِسة، فأوسع لي، فكرهتُ التضييق عليه، فقال: إنَّه لا يضيق سَمُّ الخِياط على متحابَّيْنِ، ولا تسع الدنيا متباغضين.
ومن حقوق المسلم على أخيه المسلم ألَّا يهجره فوق ثلاثة أيام إذا تخاصما، فهذه فسحة من الوقت تكفي لبرود نار الغضب وزوال حمى الخلاف ثم يُحرِّم على كل منها أن يهجر أخاه بعد هذه المدة ويدخلا جميعًا في حيِّز الإثم ودائرة المعصية حتى إن أعمالهما لتحبس فلا تعرض على الله سبحانه لأجل ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»؛ (ومسلم: 8/9)، وقال عليه الصلاة والسلام: «تعرض الأعمال على الله تعالى كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا»؛ (مسلم).
واليوم ماذا حَلَّ بالناس؟ لم يعد الهجر والتخاصم ثلاثة أيام أو أسبوعًا أو شهرًا؛ بل سنوات وربما العمر كله، فكيف سنلقى الله بمثل هذه الأخلاق، وبمثل هذا السلوك؟ ومن هذه الحقوق إيثار المسلم أخاه وتقديم مصلحته على مصالحه؛ لأنه يبتغي بذلك وجه الله وانظروا رحمكم الله إلى ذلك الضيف الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت رجل من الأنصار، فماذا كان موقفه وزوجته؟ لقد قدما للضيف طعامهما وطعام أولادهما، وناما بدون طعام حتى يشبع ضيف رسول الله، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما، فأنزل الله» {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]؛ (صحيح البخاري)، ومن هذه الحقوق الدعاء له بظهر الغيب الدعاء لهم بظهر الغيب، قال صلى الله عليه وسلم: «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل»؛ (رواه مسلم 2733).
وإذا كنت ترغب في أن يكمل إيمانك ويستقيم إسلامك فأحِبَّ للمسلمين من حولك ما تحب لنفسك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؛ (رواه البخاري ومسلم).
اللهُمَّ ألِّفَ على الخير بين قلوبنا، واجمع ما تفَرَّق من أمرنا، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
عباد الله، عندما تختفي الأخوة والمحبة من حياة الناس فإنه يحل محلها التقاطع والهجران، ويظهر الحسد، وتمتلئ القلوب بالأحقاد والضغائن، وينعدم الإحساس بحقوق الآخرين، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 21 - 23]، أيُّ أنانيةٍ هذه؟! وأيُّ أَثرةٍ هذه؟! يمتلكُ تسعًا وتسعين نعجةً، وبدلًا من أن يتنازلَ لأخيه، عن بعض نعاجه يريد منه أن يأخذ نعجةَ أخيه الوحيدة التي يمتلكها في هذه الحياة، وهكذا هي حياة كثير من الناس اليوم لا يتعامل مع إخوانه إلا وفق مصلحته وما تُمْليه عليه نفسه.
لقد جاء الإسلام ليُهذِّب النفوس ويُربِّيها، ويجعل من الحب والمودة والإخاء شعار المجتمع المسلم وسببًا لسعادته، فما أحوج الأمة اليوم أفرادًا وشعوبًا وحُكَّامًا ومحكومين إلى هذه الأخوة في زمن كثرت فيه المشاكل وتنوَّعت فيه الخلافات على مستوى القطر الواحد؛ بل وبين الدول مع بعضها البعض، بل حتى في المؤسسة الواحدة ويا ليتها كانت خلافات من أجل الدين والحق والقيم العظيمة والتنافس من أجل ازدهار الأمة ورفاهية الشعوب بل كانت من أجل دنيا فانية ولذة عابرة، فما قيمة هذه الأمة التي تملأ شرق الأرض وغربها إذا كانت أوزاعًا متفرقة، وإذا كانت أفرادًا مختلفين، وإذا كانت جماعات متناحرة، وإذا كانت حميات جاهلية وعصبيات مناطقية! إن قوتها حينئذٍ تنعكس وبالًا عليها، ويعتريها الضعف، ويتجرأ عليها العدوُّ، وتنتشر فيها العداوة والبغضاء، قال تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14].
عباد الله، فلتكن الإخوة الإيمانية رابطةَ كل مسلم مع إخوانه، وليسعى كل مسلم لجعلها سلوكًا عمليًّا في الحياة يُرضي بها ربَّه ويقوِّي بها صفَّه، ويحفظ بها أُمَّته ومجتمعه ووطنه، وليعفوا بعضنا عن بعض، ولنتراحم ونتعاون فيما بيننا، ولنتذكَّر الأجر والثواب الذي أعَدَّه اللهُ لعباده المؤمنين المتحابِّين فيه، ولنحيي هذه الأخوة في قلوبنا لتحيا في واقعنا وحياتنا.
فالأخوة في الله مساحة كبيرة وأرض فسيحة، نباتُها الصدق والإخلاص، وماؤها التواصي بالحق، ونُسمِّيها حُسْن الخُلُق وحارسها الدعاء.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين، ولا تشمِّت بنا الأعداء الحاسدين، وقوِّ إخوتنا، ووحِّد صَفَّنا، وانصُرْنا على من عادانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبدالله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، والحمد لله رب العالمين.
يا ربّ أخي ظلمني!
حقوق وواجبات شرعها الدين وعظّمها ربّ العالمين، وأمر بها المسلمين، غفل عنها كثير من الناس، وتساهل فيها كثيرٌ من المسلمين، وأعرض عنها كثيرٌ من أبناء هذه الأمة.
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارًا،
وصرَّفهم كيف شاء عِزّة واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى الناس إعذارًا منه وإنذارًا،
فأتم بهم نعمته السابغة، وأقام بهم حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل،
وأقام الحجة، وأوضح المحجة، فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه
الرحمة.
أحمده
والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره على مزيد فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات،
وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للمتقين، وبشيرًا ونذيرًا
للخلق أجمعين، أمده بملائكته المقربين، وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه
المبين، أفضل من صلى وصام وتعبّد لربه وقام، ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام.
أما
بعد:
عباد
الله: حقوق وواجبات شرعها الدين وعظّمها ربّ العالمين، وأمر بها المسلمين، غفل
عنها كثير من الناس، وتساهل فيها كثيرٌ من المسلمين، وأعرض عنها كثيرٌ من أبناء
هذه الأمة.
حقوق
وواجبات ينبغي أن تكون من أعظم صفاتهم، وأبرز سلوكياتهم، لكنها تضيع بين الناس
اليوم بسببِ خلافِ حول موقفِ سياسيٍ تافه، أو جدالٍ دنيويٍ عقيم، أو تعصُّبٍ
مذهبي، أو حزبي، أو مناطقيٍ بغيض، وتضيع كثير من الأحيان، وتختفي وتتلاشى وتنعدم
بين الناس، بسبب خلافٍ بسيط على متاع دنيوي زائل أو شهوة عابرة.
الأمر
الذي أدّى إلى ظهور القطيعة والهجران والخلاف والشقاق، وسوء الأخلاق، وامتلأت القلوب بالضغائن والأحقاد، وساءت العلاقات، وقامت الحروب، وتفشى الظلم، وتأججت العداوات بين أفراد المجتمع
المسلم.
هذه
الحقوق والواجبات هي حق المسلم على المسلم وواجبات المسلم تجاه إخوانه المسلمين.
إنها
حقوق الأخوة؛ هذه الخصلة العظيمة، والمرتبة الشريفة، في دين الإسلام، والتي قرنها
الله سبحانه وتعالى بالإيمان، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من الآية:10].
وبها
امتن على عباده، فقال:
{وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا
حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران من الآية:103].
ولأهميتها
وعظيم أجرها؛ فقد تولّى سبحانه وتعالى بنفسه يوم القيامة يوم العرض الأكبر، نداء المتحابين فيه، ليكرمهم ويجزيهم أعظم
الجزاء؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ
ظلّي» (رواه مسلم).
ولها
منزلة عظيمة تطلع لوصول إليها الأنبياء والشهداء والصالحين، قال صلى الله عليه
وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا
مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ
وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تعالى»، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ
أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ
وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ
النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ»، وَقَرَأَ هَذِهِ
الْآيَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (أخرجه أبو داود وصححه الألباني).
بل
جعل سبحانه وتعالى الأخوة وسيلة لاكتساب حلاوة الإيمان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ
يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ
الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ
كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (البخاري ومسلم).
وهي
طريق المؤمنين وسبيلهم إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى
تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ
إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (رواه مسلم).
عباد
الله: الأخوة ليست شعاراً يردد، أو قصة تحكي، أو كلامًا يقال، بل هي دين وعبادة يقوم
به المسلم طلبًا لمرضاة الله، وطمعًا لما عنده من أجر ومثوبة، وهي لا تقوم على
أساس النسب والقرابة والطائفة والمذهب، والبلاد والعشيرة، بل أساسها الدين،
فالمسلم أخو المسلم في أي بلاد ومكان، في أي عصر وزمان.
عن
أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ
إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة من الآية:101]، قال: فنحن نسأله إذ قال: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا
شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ
وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قال: وفي ناحية
القوم أعرابي فجثا على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم، من
هم؟ قال: فرأيت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البِشر، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: «هم عِبادٌ من عِباد الله من بلدان شتى،
وقبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون
بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورًا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قُدَّام
الناس، ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون» (رواه أحمد والحاكم وصحّحه الذهبي).
لو كبرت في جموع الصين مئذنة *** سمعت في المغرب تهليل المصلين
إذا اشتكي مسلم في الهند أرَّقني *** وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
أرى بُخَارَى بلادي وهي نائية *** وأستريح إلى ذكرى خُرَاسان
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ *** عددت ذاك الحمى من صُلْب أوطاني
شريعة الله لَمَّتْ شملنا *** وَبَنَتْ لنا معالم إحسان وإيمان
وللأخوة الصادقة حقوق؛ ينبغي على كل مسلم أن يقوم بها تجاه إخوانه،
وإن أول هذه الحقوق: سلامة الصدر، فلا يحمل المسلم على أخيه المسلم شحناء ولا
بغضاء ولا حسد، يقول الله سبحانه وتعالى وهو يصف عباده وهم يتضرعون إليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ
فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ
فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9-10].
ومن حقوق الأخوة: القيام بالواجبات الحياتية واليومية والمعاشية
تجاه إخوانك المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ
فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ
اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» (رواه البخاري ومسلم).
ومن هذه الحقوق: حسن الظن بأخيك المسلم، وسِتر عيوبه وتقديم النصح
له، قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ
ٱلظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ} [الحجرات من الآية:12].
وفي الحديث الصحيح الذي (رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي برزة)
أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا
المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عوراتهم، تتبّع الله عورته، ومن تتبّع
الله عورته، يفضحه في جوف بيته».
ومن هذه الحقوق: زيارة المسلم لأخيه المسلم، وتفقُّد أحواله، وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنَّ رجلًا زارَ أخًا لَهُ في
قريةٍ أخرى، فأرصدَ اللَّهُ لَهُ، على مَدرجَتِهِ، ملَكًا فلمَّا أتى عليهِ، قالَ:
أينَ تريدُ؟ قالَ: أريدُ أخًا لي في هذِهِ القريةِ، قالَ: هل لَكَ عليهِ من نعمةٍ
تربُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحببتُهُ في اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي
رسولُ اللَّهِ إليكَ، بأنَّ اللَّهَ قد أحبَّكَ كما أحببتَهُ فيهِ» (رواه مسلم).
يقول التابعي مالك بن دينار رحمه الله: "لم يبقَ من روح الدنيا إلا ثلاثة: لقاء الإخوان،
والتهجُّد بالقرآن، وبيت خالٍ يذكر الله فيه".
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا رزقكم
الله عز وجل مودة امرئ مسلم فتشبثوا بها" (أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب:
الإخوان، ص: [81]، ورجاله ثقات).
عباد الله: ومن حقوق الأخوة تقديم النفع لهم بالمال والجهد
وإعانتهم بما تستطيع وقضاء حاجاتهم وقد قال صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت
محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (رواه أحمد؛ صحيح الجامع: [4321]).
وقال الإمام علي رضي الله عنه: "عشرون درهماً أُعطِيها أخي في
الله، أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بمائة درهم".
ولقد كان الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُهدِيَ
له شيء، قال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه أخوه إلى آخر فلم يزل يبعث
به واحد إلى آخر، حتى يرجع إلى الأول".
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إني لألقم اللقمة أخاً
من إخواني؛ فأجد طعمها في حلقي".
ومن حقوق المسلم على أخيه المسلم أن لا يهجره فوق ثلاثة أيام إذا
تخاصما، فهذه فسحة من الوقت تكفي لبرود نار الغضب وزوال حمى
الخلاف ثم يُحرَم على كل منها أن يهجر أخاه بعد هذه المدة ويدخلا جميعًا في حيِّز
الإثم ودائرة المعصية - حتى إن أعمالهما لتُحبَس فلا تُعرَض على الله سبحانه لأجل
ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيُعرِض هذا ويُعرِض
هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (رواه مسلم: [8/9]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «تُعرَض الأعمال على الله تعالى كل
يوم اثنين وخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين
أخيه شحناء؛ فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا» [رواه مسلم؛ البر والصلة: [36]).
واليوم ماذا حل بالناس؟
لم يعد الهجر والتخاصم ثلاثة أيام أو أسبوع أو شهر؛ بل سنوات وربما
العمر كله فكيف سنلقى الله بمثل هذه الأخلاق وبمثل هذا السلوك؟
ومن هذه الحقوق: إيثار المسلم أخاه وتقديم مصلحته على مصالحه؛ لأنه
يبتغي بذلك وجه الله، وانظروا رحمكم الله إلى ذلك الضيف أرسله رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى بيتِ رجل من الأنصار فماذا كان موقفه وزوجته؟ لقد قدَّما للضيف طعامهما
وطعام أولادهما وناما بدون طعام حتى يشبع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ضحك الله الليلة، -أو- عجب، من فِعالكما فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ}» (صحيح
البخاري).
ومن هذه الحقوق: الدعاء له بظهر الغيب، الدعاء لهم بظهر
الغيب، قال صلى الله عليه وسلم: «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب
مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك
بمثل»
(رواه مسلم: [2733]).
وإن من أعظم هذه الحقوق والواجبات أن يجتنب المسلم ظلم أخيه
المسلم، أو يكون سببًا في ظلمه والتعدِّي على ماله وعرضه ودمه، وحسبك أن النبي صلى
الله عليه وسلم اختار أشرف البقاع، وأشرف الأيام، وتحيّن موقف الحاجة إلى الموعظة،
لينبّه الناس إلى ذلك الأمر العظيم، لقد خطب الناس يوم النحر، فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم
خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم،
ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»، ثم قال: «أي شهر هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى
ظننا أنه سيُسمِّيه بغير اسمه، قال: «أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «فأي بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى
ظننا أنه سيُسمِّيه بغير اسمه قال: «أليس البلدة؟» والبلدة هي مكة البلد الحرام،
قلنا: بلى، قال: «فأي يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيُسمِّيه بغير اسمه،
قال:
«أليس يوم النَّحر؟» قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم
عليكم حرام كحُرمَة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم
عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد
الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه» ثم قال: «ألا هل بلغت؟» قلنا: نعم، قال: «اللهم اشهد» (متفقٌ عليه).
أيها المؤمنون عباد الله: عندما تختفي الأخوة والمحبة من حياة
الناس، فإنه يحل محلَّها التقاطع والهجران، ويظهر الحسد، وتمتلئ القلوب بالأحقاد
والضغائن، وينعدم الإحساس بحقوق الآخرين، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ
قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا
بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاط . إِنَّ هَذَا أَخِي
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:21-23].
أيُ أنانيةٍ هذه، وأيُ أَثرةٍ هذه! يمتلكُ تسعاً وتسعين نعجة،
وبدلاً من أن يتنازلَ لأخيه، عن بعض نعاجه يريد منه أن يأخذ نعجة أخيه الوحيدة
التي يمتلكها في هذه الحياة وهكذا هي حياة كثير من الناس اليوم لا يتعامل مع إخوانه
إلا وفق مصلحته وما تمليه عليه نفسه، بل هناك ما هو أعظم من هذا الظلم الذي يمارسه
الأخ على أخيه فهناك من يتجرأ على الدماء المعصومة والأرواح المصونة دون وجه حق
وإنما ظلم وعدوان وعلى أتفه الأسباب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَجِيءُ الْقَاتِلُ
وَالْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ وفي لفظ:
يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا - يَقُولُ: رَبِّ سَلْ
هَذَا لِمَ قَتَلَنِي؟» [رواه أحمد: [1840]، وصحّحه الألباني في صحيح ابن ماجة).
يا له من موقف رهيب يأتي المقتول وجروحه تنزف دمًا، وقد أمسك
بالقاتل وأخذ يجره إلى ميدان القضاء العادل، أمام ربّ العالمين، ويقول ياربّ: سل
هذا لم قتلني ماذا فعلت؟ لماذا سوّلت له نفسه ذلك؟
وهكذا بين يدي الله يقف الناس جميعًا بين يدي الله، يسأل أحدهم أخاه
أمام ربّ العالمين: ياربّ لم قتلني؟ ياربّ أخي ظلمني؟ ياربّ سله لم جحد حقي؟ يارب
لم هجرني؟ عند ذلك يقضي سبحانه بين العباد، وقَالَ جُنْدَبٌ رضي الله عنه:
حَدَّثَنِي فُلانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ قَتَلْتُهُ
عَلَى مُلْكِ فُلانٍ» قَالَ جُنْدَبٌ: فَاتَّقِهَا (رواه النسائي: [3933]، وصحّحه
الألباني في صحيح النسائي).
أي قتلته من أجل ملك فلان، ومنصب فلان، ومال فلان، فكيف هو القتل
اليوم في بلاد المسلمين أليس من أجل فلان وعلان يقتل أفراد وتباد أسر، وتزهق
أرواح، وتهتك أعراض، وتدمر ممتلكات، فاتقوا ذلك، وراقبوا من لا يغفل ولا ينام، ويقتص
لعباده في يوم لا ينفع الندم، ولا تقبل الأعطيات، ولا تجزئ الشفاعات والوساطات.
اللهم ألِّف على الخير بين قلوبنا، واجمع ما تفرَّق من أمرنا قلت
ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقد جاء الإسلام ليُهذِّب النفوس ويربيها، ويجعل من الحب والمودة والإخاء سلوك المجتمع
المسلم، وسببًا لسعادته، فما أحوج الأمة اليوم أفرادًا وشعوبًا حكامًا ومحكومين
أحزابًا وجماعات إلى هذه الأخوة، في زمن كثرة فيه المشاكل وتنوَّعت فيه الخلافات
على مستوى القطر الواحد، بل وبين الدول مع بعضها البعض، ويا ليتها كانت خلافات من
أجل الدين، والحق والقيم العظيمة والتنافس من أجل ازدهار الأمة ورفاهية الشعوب، بل
كانت من أجل دنيا فانية، ولذة عابرة.
ولتكن الإخوة الإيمانية رابطة كل مسلم مع إخوانه، وليسعى كل مسلم
لجعلها سلوكًا عمليًا في الحياة، يرضي بها ربه، ويقوي بها صفه، ويحفظ بها أُمَّته ومجتمعه
ووطنه.
واحذروا الظلم والتقاطع والحسد والغل، وسوء الظن تجاه إخوانكم
المسلمين؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا
تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا،
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه
المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعِرضه» (رواه مسلم).
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، وقاعدين، ولا تُشمِت بنا الأعداء
الحاسدين، وقوي أُخوَّتنا ووحِّد صفِّنا وانصرنا على من عادانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة
المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام
عليه بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
حسان أحمد العماري
الأخوة
عطاء لا ينقطع منذ 2018-09-29 والأخوة التي ربما يعبر عنها في بعض الأدبيات
بالصداقة أو الرفقة أو الزمالة ضرورة بمقتضى الطبيعة الإنسانية فمن نعم الله على
عباده ومنحه التي لا تعد ولا تحصى، نعمة الأخوة في الله، والتحاب فيه سبحانه،
والتآخي على طريق الدعوة إليه، وهي طريق شاقة محفوفة بالمكاره والمخاطر، ولا مناص
فيها من صبر وتواصٍ عليه، ومن حق وتواصٍ بالاستمساك به؛ وهذا التواصي لا يكون إلا
بأخوة صادقة خالصة متمحضة الغاية. وقد ألَّف الله بهذا الدين بين قلوب متنافرة، وردم عداوات
متوارثة، وأنهى ثارات باطلة، لو أنفق الناس مثل الأرض ذهباً لما استطاعوا تحقيق
هذا التأليف والإصلاح، وإزالة تلك الإحن والضغائن، وهي نعمة جليلة جديرة بالذكر والترداد،
ولذا امتن الله بها على عباده في غير ما موضع من كتابه، كما في قوله سبحانه وتعالى:
{ {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} } [آل عمران: 103]،
وقوله جل وعلا: { {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْـمُؤْمِنِينَ 62
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63]. والأخوة التي ربما يعبر عنها في بعض الأدبيات بالصداقة أو
الرفقة أو الزمالة ضرورة بمقتضى الطبيعة الإنسانية، ولا مناص منها لأي تجمع بشري، ويكمن
الفرق الكبير بينها وبين هذه المعاني أنها علاقة عمادها الحب في الله، والتعاون
على البر والتقوى، والانخلاع من مصالح الدنيا وشهواتها، فيكون الاجتماع على حق
ولأجل حق، يتشارك الإخوة فيه عمل الصالحات، ويتواصون بالحق، ثم يتواصون بالصبر على
فعله، وترك ما يخالفه، ويتواصون أيضاً بالصبر تجاه ما يتبع أي دعوة للحق من أذى
ومضايقة، مصداقاً لما جاء في سورة العصر من وصف وتوجيه، يمثل خريطة طريق ومنهج عمل
لعباد الله الصالحين، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله لو لم ينزل الله على
عباده غيرها لكفتهم!
وفوق
ذلك فأخوة الإيمان عروة لا تنفصم، ورابطة لا تنحل حتى وإن نأت الدار، أو أدركت
المنايا بعضهم؛ بل هي ممتدة عبر الحقب والعصور، فالمؤمن في عصرنا يرتبط بأخوة
إيمانية مع مؤمن آل فرعون، ومع الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ومع الصحابة
والتابعين والرعيل الأول من أجيال هذه الأمة رضوان الله عليهم جميعاً، ويواليهم
بالمحبة والدفاع عنهم، ويذكرهم في دعائه ومناجاته، ويرنو ليوم يراهم في جنان
الخلد، فاللهم أقر أعيننا برؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ورؤية إخواننا من
المؤمنين الذين سبقونا، لنكون كما جاء في الوصف القرآني: { {وَنَزَعْنَا مَا فِي
صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} } [الحجر: 47]. ولهذه الأخوة فوائد تتجاوز الدنيا التي تتحات فيها ذنوبهم
بالمصافحة، وتعلو منازلهم بالتزاور، فتستمر هذه المزايا إلى الحياة البرزخية، حين
يطلب الأحياء رحمة الله لإخوانهم الأموات ويستغفرون لهم، ويسألون الله لهم العفو والفسحة
والنجاة من هول القبور، وفي الآخرة تجلب الشفاعة بين الإخوة، ولا يتبرأ منها أحد
كما يفعل خلان الباطل وإخوة الشر والفساد، ويا لها من خسارة حينئذ؛ فهذا التابع أو
المتبوع يصير حسرة ووبالاً على صاحبه، وأما من كانت أخوتهم لله؛ فينفعون ولا
يضرون، وتصير العلاقة معهم ثقلاً في الموازين والحسنات. وهي فضيلة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث
المتفق عليه:
«وكونوا
عباد الله إخواناً»، وأخبر المولى سبحانه عن وفاء الإخوة لبعضهم؛ حيث لم ينسوهم من
الدعاء: { {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر: 10]. ومن بركات الإخوة المجادلة عنهم، واستمرار رباط
الأخوة حتى يجتمعوا في الجنة، وهي سبب ليكون المرء من السبعة الذين يظلهم الله في
ظله يوم الحر الشديد، حسبما ورد في الحديث المتفق عليه: « «رجلان تحابا في الله،
اجتمعا عليه، وتفرقا عليه»
». ولهم
منابر من نور يغبطهم عليها الشهداء والنبيون كما في الحديث الذي أخرجه أحمد
والترمذي، وما أسنى قيمة أمر يجعلك مغبوطاً من خيرة الأمة. وهذا غير وجود مصالح أخرى؛ كتذوق حلاوة الإيمان التي لا يجدها
إلا من أحب في الله ولله، وهي حلاوة يربو طعمها على أي شيء من لذاذات الدنيا؛ بل
هي أفضل من الزاد للجائع، والترياق للمريض، والوقود للمحرك. ومن مصالحها أيضاً إكمال
شرائع الدين وحفظه بالدعوة والتعليم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ودفع الغربة التي تستحكم بالقلة أو الوحدة، وتقوية الإيمان وزيادته بالتنافس على
الصالحات، والتعاون على ابتداء مشاريع الخير، وإنتاج أفكار العمل المثمر النافع. ومن ضرورات هذه الأخوة التي لا تقوم إلا بها، صدق النية فيها
وصرفها لمرضاة الله فقط، والإخلاص في التآخي كما في سائر القرب، وأن تكون سبباً
لفعل الصالحات وتجنب المنكرات، وأن تضبط بميزان الاعتدال، فتكون المحبة بحسب الطاعة،
ليست كلفاً كفعل الصبيان، ولا تلفاً للمبغَض كما يفعل أهل اللجاجات في المعاداة،
ويحكمها الأثر الذي يأمر بأن يكون الحب والبغض هوناً، فربما انقلبت الحال في يوم
ما. وللإخوة حقوق بعضها مشترك مع عامة
الناس، وبعضها خاص لمن يرتبط المرء معه بأخوة إيمانية صادقة، فمنها: السلام، والبشاشة عند اللقاء، قال صلى الله عليه وسلم: « «لا
تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» » (رواه مسلم). الدعاء له حياً وميتاً، قال عليه الصلاة والسلام: «ما من عبد
مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل» ( [رواه مسلم] ). المعونة، وقضاء الحوائج، والوقوف معه إبان النوازل والنوائب،
والشفاعة له، وتفقد أحواله؛ فربما عانى بصمت. ستر معايبه، وحفظ سره، والدفاع عنه، ونصيحته وفق المنهج
الشرعي، والصفح عن زلاته.
الإكرام
بالطعام والهدية وإعلان المحبة. إدخال السرور على نفسه بما يحب. التعاون والتناصر والتناصح والتآمر بالمعروف والتناهي عن
المنكر. إيثاره على النفس، ويا لها من مرتبة
سامية لا يبلغها إلا الأصفياء الذين أثنى الله عليهم بقوله: {َ {يُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} } [الحشر: ٩]. إن الأخوة في الله عملة ثمينة نادرة، أغلى من أغلى الجواهر
والدرر، لا يحوزها إلا من تعالى عن علائق الدنيا، وارتبط بالغاية العظمى، وهي دخول
الفردوس الأعلى من الجنة، ولذا فثمنها صعب، وطريقها محفوف بالمصاعب، فمن ذا يصبر
على طباع الناس ومشكلاتهم، ومن يقهر شهواته ورغباته الجبلية أو الزائدة، ومن
يستطيع الارتفاع عن مصالحه الشخصية ومغانمه الآنية، ولأجل ذلك كان أجرها عظيماً،
وأثرها كبيراً، يشعر به الصادقون في أخوتهم بالدنيا، ويأملون أن يجدوا بركتها
ونفعها في قبورهم، وحين يقوم الأشهاد. ومن أعجب العجب، أن تقوم سوق الأخوة بين العاملين لله في حقول
الدعوة والتعليم والجهاد والإعلام، ثم يسهل على عدوهم اختراقهم وتفريقهم، أو تكون بعض
المغانم سبباً في نفرة القلوب والتهاجر أو التقاطع وربما التنابز، فمتى يعي الذين
يصرفون جهودهم لخدمة هذا الدين أن الهدف المشترك مظلة جامعة، ومحكمة عادلة، وقوة
قاهرة، يذوب عندها أي خلاف، وتقف حاجزاً دون التحريش أو التفريق، فهم مهما اختلفوا
أرحم بأنفسهم من عدوهم المتربص، أياً كان هذا العدو كافراً، أو مبتدعاً، أو
منافقاً. وليت أن المناهج التربوية تعنى بهذا
الأمر عناية كبيرة، حتى تكون محاضن الدعوة والتربية حفية بفقه الوفاق وآدابه،
ويكون التصالح مع المؤمنين والعاملين للدين على وجه الخصوص سمة ثابتة في البرامج
التربوية، والمبادئ التي تغرس في نفوس الناشئة، فما جاءنا البلاء إلا من ثغرات
بسبب حظوظ النفس، والإسراع إلى الشقاق والتنازع، والله أمرنا بمراعاة حق الإخوة، وبالإصلاح
والتوافق، وأمرنا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بالمداراة والتطاوع؛ حذار
الفشل والتفرق، وهذه مهمة شاقة بيد أنها ملحة وضرورية، وتقع على عاتق أكابر
المربين والدعاة وقادة العمل الإسلامي. تحرير مجلة البيان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق